تعرف الساحة المغربية تموجات حزبية كثيرة، تارة تعلو، وتارة تتلاشى على شاطئ السياسة، كما أنها عرفت أيضا، خلال السنوات الأخيرة، حركية حزبية قوية، كان موضوعها الحزبان الرئيسيان من جهة، والدولة كجهاز من جهة ثانية، وهذا ما أعاد طرح إشكالية علاقة الدولة بالأحزاب السياسية.
فمن المعلوم أن الحزب هو جزء من الدولة، وهذه الأخيرة تظل موضوع الخلاف والطموح الحزبي، بحيث كل حزب يريد من موقعه أن يحرك دواليب الدولة لفائدة مشروعه السياسي، غير أنه مهما بلغت قوة الدولة في مختلف أقطار العالم، تكون دائما في حاجة إلى الأحزاب، تستعين بها حينما تضعف، وتضعفها حينما تريد أن تتقوى، بل ما هو متفق عليه هو أن الحزب يجب أن يكون دائما في خدمة الدولة، ليس فقط لأنه جزء منها، بل لأن وجوده رهين، كذلك، بوجود الدولة، إذ فقط في فضاء الدولة، توجد الأحزاب وتنتعش وتتحرك.
غير أن ما هو مثير فيما يهم العلاقة بين الحزب والدولة، هو حينما يتحدث البعض عن “حزب الدولة”، فيصدر أحكام قيمة كثيرا ما تكون ملتبسة، فكل الأحزاب هي في حقيقتها أحزاب الدولة نظريا، ولا يجوز أن يكون هناك “حزب وحيد للدولة” في النظام التعددي، فالخطورة الحقيقية تكمن في العكس، أي حينما تكون هناك “دولة الحزب”، لكون هذه الوضعية لا تدوم، وتكون مصدر قلاقل وإضعاف للدولة في ذاتها وفي شرعيتها.
إن أخطر ما يهدد الدولة هو تماهي الحدود بينها وبين الحزب، فيتداخل كل واحد في الآخر، في حين أنه يجب أن تبقى الدولة دولة، والأحزاب أحزاب، وبينهما خط فاصل رفيع، خاصة وأننا أسلفنا القول بأن الأحزاب جزء من الدولة، والدولة تسير بالأحزاب حسب تمدد الممارسة الديمقراطية، وهذا هو الذي يعطي للدولة شرعية في الوجود والاستمرارية، ويعطي للأحزاب ذلك الدور السياسي في الوساطة الاجتماعية والسياسية وواجب التدخل لإنعاش الدولة في حالة ضعفها، لذلك اعتقدت دائما أن الإشكال لا يكمن في وجود “حزب الدولة”، ولكن في “دولة الحزب”، لأن الدولة مبدئيا يجب أن تعلو على الجميع، لأنها تضم الجميع.
إنه من الجهل السياسي، أن يعتقد البعض أنه في الأنظمة الديمقراطية تغيب الدولة عن الأحزاب، إذ كثيرا من رؤساء الدول اشتغلوا من موقعهم بقوة لأجل إيصال أحزاب معينة إلى سدة السلطة وإدارة الدولة، فقد اشتغل مثلا الرئيسان الفرنسيان ميتران وشيراك كثيرا على تسهيل مهمة وصول الأحزاب القريبة منهم وحتى المعارضة لهم إلى الحكومة لحسابات سياسية تهمهم، كما أن خوان كارلوس، ملك إسبانيا، لم يخف رغبته خلال بداية حكمه في إيصال الاشتراكيين إلى السلطة بحصولهم على الأغلبية الانتخابية، لِما يتمتعون به من شرعية نضالية وتاريخية في مرحلة يعيد فيها بناء الشرعية السياسية للنظام الملكي الإسباني، الذي ارتبط تاريخيا بالفاشستية العسكرية الفرانكاوية، وفي المغرب صنع الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1998، تناوبا توافقيا كنا نعتقد باستحالة وقوعه، وفي السياق نفسه يعلم الجميع كيف تكونت حكومة بنكيران الثانية، على أنقاض صراع عنيف بينه وبين حزب التجمع، وغيرها من الأمثلة التي تدل على أن هذا الدور من صميم مهام رئيس الدولة المؤتمن على ضمان حسن سير مرافقها العامة.
ومن ثم، فإن الأحكام السياسية التي تحاول أن توحي بأننا نعيش في ظل “حزب الدولة” هي أحكام مغلوطة، ونظرا إلى تشعب مكونات الدولة فمن الطبيعي أن تضم توجهات تحمل مشاريع سياسية متضاربة، مما قد يجعل جزءا من الدولة ينفر من هذا الحزب أو ذاك، غير أن هذا لا يعني إلغاء الديمقراطية، فهذه الأخيرة هي الحاسمة في فرض العلاقة بين حزب معين والدولة كجهاز.
لذلك، إذا استطعنا في المغرب الوصول إلى درجة جعل صناديق الاقتراع هي الحاسمة، دون إغفال دور رئيس الدولة باعتباره المسؤول عن التوازنات وضمان الاستمرارية، سنكون فعلا في بداية طريق بناء نظام سياسي أكثر تطور، أما أن يعتقد البعض بأن حزبا معينا لطبيعة مرجعيته السياسية المتداخلة مع المرجعية العقائدية الوطنية منذ عقود، يمكنه أن يهيمن على الدولة، أو أن حزبا آخر يريد أن يهيمن على الدولة بمفرده وفقا لمشروع سياسي معين، فهذا وهمٌ، لأن الدولة بطبيعتها تبني ستارا حديديا من الممانعة، ولها قدرة ذاتية للدفاع عن نفسها ضد كل محاولات الهيمنة، فالوضع الطبيعي هو أن الدولة دولة، والحزب حزب، وشتان بينهما.