عادَت الصّين أمس إلى حُكم “الزَّعيم الأَوْحد” المَفتوح النِّهايات عندما أقرّت الجمعيّة الوَطنيّة للحِزب الشُّيوعي الحاكِم تعديلاً دُستوريًّا يُلغِي “قيد” الفَترتين الرِّئاسيّتين، ويَمنع الرئيس شي جين بنغ، حَق البَقاء في مَنصبِه مَدى الحياة.
كان لافِتًا أن نائبين اعْتَرضا على هذا التَّعديل، بينما امْتنع عن التَّصويت ثلاثة نوّاب من مَجموع ما يَقرُب من ثلاثة آلاف مَندوب شاركوا في التَّصويت على التَّعديل الدُّستوري المَذكور آنِفًا.
الرئيس الصيني السَّابِق، المُلقَّب بـ”أبي الإصلاح” دنغ تشاو بينغ، هو الذي أدخل هذهِ الفَقرة المُقيّدة في الدُّستور عام 1982، إدراكًا مِنه لخَطر حُكم الرَّجل الواحِد، وخَطر عِبادة الشَّخص، ورَغبةً مِنه في تَكريس مَبدأ القِيادة الجَماعيِّة بالتَّالي.
الأمر المُؤكَّد أن الرئيس الصيني الحالي جين بينغ (64 عامًا) سيُعيد الصّين إلى حُكم الرَّجل الواحِد، وعلى غِرار ماوتسي تونغ، ولكن بعد ترسيخ إصلاحاتٍ اقتصاديّة جَعلت الصّين ثاني أكبر قُوّة اقتصاديّة في العالم بعد الولايات المتحدة، وسَتحتل المَرتبة الأولى في غُضون بِضعة أعوام تَحت عُنوان “الخُصوصيّة الصينيّة”.
ربّما يَعترِض كثيرون على هذهِ الخُطوة، لأنّها تعني تَحويل الصّين إلى مَلكيّة شُيوعيّة، ولكن دون تَوريث الحُكم للأبناء، ولكنّها في الوَقت نفسه تُنهي نَظريّة “التَّكاذُب” الدِّيمقراطي في العَديد من دُول العالم خارج المَنظومة الرأسماليّة الغَربيّة، والوَطن العربي على وَجه التحديد، وتُوقِف “مَهزلة” تعديل الدَّساتير لمَد فَترات الرؤوساء في الحُكم حتى الانتقال إلى الرَّفيق الأعلى.
مُعظَم البُلدان العَربيّة تَلجأ إلى تَبنّي هذه المَلكيّات الجُمهوريّة، ولكن بالتَّقسيط المُريح، أي من خِلال إدخال عِدَّة تعديلات على الدُّستور لتَمكين الرئيس من البَقاء في الحُكم لعِدّة فَترات، وحتى اليَوْمْ الأخير من حياتِه، فإذا نَظرنا إلى روسيا مثلاً، نَجِد أن الرئيس فلاديمير بوتين كان الحاكِم الفِعلي للبِلاد حتى عندما كان رئيسًا للوزراء، وظَلَّ دور دميتري ميدفيديف شَكليًّا، ودون أي صلاحيّات رِئاسيّة، وانتهى الأمر بتبادُل الأدوار بين الرَّجلين وعَودة بوتين إلى سُدَّة الرِّئاسة، وغالبيّة أنظمة الحُكم العَربيّة سواء الحاليّة، أو المُطاح بها، لَجأت إلى أُسلوب “التَّكاذُب” نفسه، والالْتفاف على الدُّستور، في سورية والعِراق وتونس واليَمن والجزائر ومِصر والقائِمة طَويلة.
إذا نَظرنا إلى مُعظَم الانتخابات في الدُّول العَربيّة نَجِد أنّها في مُعظَمِها تتمخّض عن نتائِج مَعروفة نتائِجها مُسبقًا، أي فَوز الرئيس وحِزبه الحاكِم، ولنا في مِصر وانتخاباتِها السَّابِقة واللاحقة خَير مِثال، فالرئيس عبد الفتاح السيسي اختار مُنافِسًا ضَعيفًا مَجهولاً بعد أن أطاح بكُل المُرشَّحين الأقْوِياء الآخرين، وزَجْ ببعضِهم في السُّجون، وكان الأفضل له اختصار هذهِ المَسرحيّة، وتَعديل الدستور بالطَّريقة التي جَرى فيها تَعديل الرئيس الصِّيني، وسط تَصفيقٍ حاد بعد إعلان النَّتائِج، ولعلَّ النائب مصطفى بكري الأكثر تَصويرًا لواقِعيّة الحالة المِصريّة هذه، عندما طالب بانتخاب الرئيس السيسي رئيسًا مَدى الحياة.
ما يَشفَع للرئيس الصيني جين بينغ في نَظر الكثيرين أنّه جعل من بِلاده دولةً عُظمى اقتصاديًّا وسِياسيًّا، وحارَب الفَساد، وبَدأ يُخفِّف من إجراءات التقشُّف المَفروضة على الشَّعب الصِّيني مُنذ نِصف قرن، ولكن نُظرائه العَرب زادوا من شُعوبِهم فَقرًا، واقتصادهم تراجُعًا، وحَمّلوا الشعب مسؤوليّة فَشلِهم على شَكل ضرائِب ورُسوم، وإلغاء الدَّعم على السِّلع، والخَدمات الأساسيّة، والشَّيء الوَحيد الذي تَقدَّم هو القَمع والاضْطهاد ومُصادرة الحُريّات والفَساد.
أخطر ما في هذهِ التَّعديلات الصينيّة أنّها ستُستخدَم نَموذجًا ومَثلاً في مِنطقتنا تَحتذي بِه أنظمة لتَبرير سياساتِها الفاشِلة، وتَشريع سِياسات القَبضة الحديديّة، أي سَيأخذون من التَّجرِبة الصِّينيّة تَكريس حُكم الزَّعيم الفَرد، ودون الجانِب المُشرِّف مِنها، وهو الإنجازات الاقتصاديّة والعَسكريّة التي حَوّلت الصِّين إلى دولةٍ عُظمى مَرهوبة الجانِب في عُقودٍ مَعدودة.