انشغل الرأي العام السعودي في أبريل 2015 بالجدل حول تغريدة نشرها جندي سعودي عبر حسابه في “تويتر”، هدد فيها المواطنين السعوديين الشيعة في القطيف بـ”الذبح”!. وهو الأمر الذي استدعى تدخلا مباشرا من الأمير محمد بن سلمان، والذي كان حينها وزيرا للدفاع، ولم يتقلد منصبه كولي للعهد بعد. أمر الأمير بالتحقيق مع العسكري، وإحالته إلى “القضاء العسكري”، في حال ثبوت الجرم عليه.
هذه الحادثة يروي شيئا من تفاصيلها عضو مجلس الشورى السابق محمد رضا نصر الله لموقع “صُبرة” الإلكتروني، قائلا “تواصلت مع سمو الأمير محمد وقتذاك حاملا امتنان المواطنين الشيعة في القطيف والأحساء، ففاجأني بخطاب يتسم بلغة قانونية حقوقية، وهو يقول لي: هذا ليس مِنةً على مواطنينا الشيعة، فالدولة مسؤولة عن أمنهم وسلامهم الاجتماعي وتوفير الحقوق المتوجبة لهم من الدولة”.
في ذات العام، وتحديدا في شهر مايو، فجر انتحاري ينتمي لتنظيم “داعش” نفسه وسط المصلين في مسجد الإمام علي بن أبي طالب، في قرية القديح بمحافظة القطيف، ما أسفر عن سقوط العشرات بين قتيل وجريح.
العمل الإرهابي الأول من نوعه تجاه مسجد شيعي في السعودية، تعاملت معه الجهات الحكومية بشكل سريع وحاسم، حيث وجه الملك سلمان بن عبد العزيز، رسالة جاء فيها “لقد فجعنا جميعا بالجريمة النكراء التي استهدفت مسجدا بقرية القديح مخلفة ضحايا أبرياء ولقد آلمنا فداحة جرم هذا الاعتداء الإرهابي الآثم الذي يتنافى مع القيم الإسلامية والإنسانية”، مشددا على أن “كل مشارك أو مخطط أو داعم أو متعاون أو متعاطف مع هذه الجريمة البشعة سيكون عرضة للمحاسبة والمحاكمة وسينال عقابه الذي يستحقه”.
في ذات السياق، كلف الأمير محمد بن سلمان، الكاتب محمد رضا نصر الله بالذهاب إلى أهالي الضحايا وذلك “لنقل مواساة خادم الحرمين الشريفين ومواساته. وقال لي: بلغ أهلنا في القديح أن شهداء الحادث سوف يعاملون معاملة الجنود المستشهدين في المعركة، وكذلك جرحى الحادث الأليم. وأن الدولة خصصت مليون ريال لكل شهيد، ونصف مليون ريال لكل جريح”.
وفي ذات الشهر، أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمرا بإعادة بناء مسجد الإمام علي بن أبي طالب، من جديد.
التفجيرات الإرهابية التي وقعت في السنوات الفائتة، واستهدفت مساجد وحسينيات شيعية، تعاملت معها الحكومة السعودية بذات الطريقة الاحترافية والجدية. بل زادت من عملها الأمني والاستخباراتي، لمنع وقوع هجمات مستقبلا. وعززت التنسيق بين قوات الأمن والأهالي، لتوفير نقاط حماية. خصوصا أن منطقة القطيف عانت من إرهاب “داعش” والمجموعات التكفيرية من جهة، وإرهاب العصابات الإجرامية في العوامية، مما جعل الوضع يحتاج لطريقة معالجة متأنية، وحاسمة وسريعة في ذات الوقت.
تاريخيا، انضم المواطنون الشيعة للدولة السعودية الثالثة باكرا، العام 1913، حين دخلت الأحساء والقطيف تحت سلطان الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، دون مقاومة أو قتال، وإنما طوعا. وهو الأمر الذي جعل الملك عبد العزيز يكفل لهم الحق في التعبد والقضاء وممارسة الشعائر الدينية والحسينية، وفق أحكام المذهب الشيعي الجعفري.
علاقة الثقة التي بُنيت منذ البداية بين المواطنين الشيعة والملك المؤسس، استمرت طوال العقود السابقة. لأن ما يهم جهاز الدولة هو بناء كيان قوي، كان في مرحلة التأسيس الأولى.
ولوجود غالبية المواطنين الشيعة في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط، انخرط كثير من أبنائها في “أرامكو”، والتي كان اسمها حينها “الشركة العربية الأميركية للزيت”. حيث ساهموا في بناء مصانعها، واستخراج النفط من حقولها، وفي إدارة المنشآت، وعمليات التدريب والتعليم.
هذه المشاركة المباشرة في صناعة اقتصاد المملكة، امتدت لأعمال التجارة والمقاولات، والتعليم، والسلك الحكومي، والقطاع المصرفي، وصولا إلى المساهمة في بناء المدينة الصناعية في الجبيل بالمنطقة الشرقية، والتي كان أحد أهم روادها المهندس جميل الجشي، والذي شغل تاليا منصب السفير السعودي في طهران، قبل أن يتقاعد.
هذه المشاركة الفاعلة في بناء الاقتصاد، كانت تجد تقديرا لدى القيادة السياسية، إلا أنها كانت محل امتعاض المتشددين، الذين ينتمون لتيار “السلفية التكفيرية”، وهو تيار له رؤيته السياسية والفقهية تجاه أتباع المذاهب والطوائف الأخرى التي لا تتوافق معه في توجهاته ومعتقداته. وهو امتداد لجماعة “إخوان من أطاع الله” التي واجهها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن في معركة “السبلة” الشهيرة، العام 1929، بسبب مواقفهم الراديكالية التي وجدها الملك عبد العزيز معطلة لشؤون الدولة، ومناقضة لمفهوم الدولة الحديثة.
هذا الموقف “المذهبي” ازداد حدة من المتشددين بعيد انتصار الثورة الإسلامية في إيران 1979، واحتلال جهيمان العتيبي ومجموعته للحرم المكي في نوفمبر 1979، مما خلق حالة من الاستقطاب الطائفي، وتاليا صعود تيارات “الإسلام السياسي” بشقيه السني والشيعي.
الصحوة الإسلامية التي تغذت على مزيج من السلفية السرورية، وحركية الإخوان المسلمين، كانت المقابل الطائفي للثورة الإيرانية، والتي أفرزت هي الأخرى حركاتها السياسية مثل “حزب الله” و”تيار خط الإمام”، وقبلهما “حزب الدعوة الإسلامية”.
هذا الإرث السياسي والعقدي الثقيل، ألقى بسلبياته على الجمهور العام من السعوديين الشيعة، الذين وجدوا أنفسهم وسط منطقة تشهد حربا بين إيران والعراق، وصراعا بين الإسلامويين سنة وشيعة. وفي ذات الوقت تتربص بهم بعض القوى السياسية الدولية، محاولة استخدام قضاياهم كـ”ورقة ضغط وابتزاز” ضد الحكومة السعودية في المحافل الدولية.
العام 1993، شهد عودة المعارضة الإسلامية الشيعية السعودية من الخارج، بعد مبادرة قام بها الملك فهد بن عبد العزيز، إيمانا منه بأن هؤلاء مواطنين، وبلدهم أحق بهم من سواها، وأن أي قضايا قائمة من الممكن حلها عبر الحوار والعمل من الداخل.
هذه القناعة تولدت لدى الملك فهد بن عبد العزيز، بعيد أن رفضت “الحركة الإصلاحية” (الفصيل الرئيس للمعارضة السعودية الشيعية التي كانت في الخارج) غزو صدام حسين لدولة الكويت 1990. حيث دعا حينها زعيم الحركة الشيخ حسن الصفار الشباب السعودي الشيعي إلى مواجهة الغزو، والوقوف مع الحكومة ضد القوات العراقية. يضاف إلى ذلك، رفض “الحركة الإصلاحية” القيام بمهام أمنية وعسكرية لصالح إيران، وتفاقم الخلاف بينها وبين طهران، وانتقال الكثير من قياداتها إلى دمشق ولندن وعواصم أخرى. ما شكل صورة “وطنية” إيجابية عنهم، وأنهم ليسوا “طابورا خامسا” يتآمر ضد مصالح المملكة.
وكالة الأنباء السعودية “واس”، نقلت في سبتمبر 2004، تصريحا للشيخ الصفار، حول تقرير الخارجية الأميركية بشأن الحريات الدينية، جاء فيه “كيف يحق للأميركيين أن يتحدثوا عن انتهاك الحريات الدينية وحقوق الإنسان في هذا البلد أو ذاك وهم يرعون ويدعمون أبشع ممارسات القتل والتدمير التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني المتمسك بحقه المشروع في الحرية والاستقلال “، منددا بـ”زيف الشعارات والتقارير التي تصدرها الجهات الأميركية حول حقوق الإنسان وانتهاك الحريات الدينية “. في موقف واضح منه، يرفض فيه استخدام “الشيعة” كورقة في الملفات الدولية ضد وطنهم.
أذكر أنني كنت حينها في زيارة إلى مكتب الصفار، وأنه جاء لمقابلتي بعد أنهى لتوه اتصالا تلقاه من وزير الخارجية الراحل سعود الفيصل، الذي شكره على مواقفه الوطنية.
هنالك قناعة لدى رموز الشيعة في السعودية، ترسخت يوما بعد آخر، تقوم على التالي: الولاء للوطن وقيادته السياسية، ورفض التدخلات الخارجية، ونبذ العنف وحمل السلاح، وأهمية الحفاظ على السلم الأهلي، والبعد عن الخطابات الطائفية والعنصرية، والتأكيد على مبدأ الوحدة الإسلامية، واتخاذ الحوار والتواصل كطريق لحل المشكلات القائمة، والإيمان بمرجعية القانون الذي يضمن تكافؤ الفرص بين المواطنين دون أي تمييز مذهبي أو مناطقي.
هذا التوجه ينسجم مع رؤية المملكة 2030، والتي تروم تأسيس مجتمع منتج، يقود إلى دولة مدنية حديثة، يسود فيها القانون، بعيدا عن المحاصصة أو المحاباة.
ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وفي لقائه مع الصحافيين المصريين في القاهرة، خلال زيارته الأخيرة في مارس الجاري، تحدث بإيجابية عن المواطنين السعوديين الشيعة، وعن دورهم في بناء الوطن، قائلا إن “شيعة السعودية يساهمون في نهضتها، ويتولون مناصب قيادية”. وهو التصريح الذي نال اهتماما كبيرا في الأوساط الشيعية في المملكة.
إن الشيعة في السعودية يعيشون اليوم شأنهم شأن باقي المواطنين في مرحلة انتقالية، يزيح فيها عن كاهلهم ولي العهد حملا ثقيلا، طالما عانوا منه، ألا وهو “الخطاب الأصولي المتشدد”، والذي وعد الأمير بـ”تدميرهم فورا”، أي “المتطرفين”. والشيعة بذلك، ومعهم المعتدلون، لن يكونوا تحت وطأة التشدد الذي تغلغل في سنوات سابقة في المجتمع، وحال بين كثير منهم وبين القيام بمهامهم الوطنية بالشكل الذي يريدونه.
اليوم أمام الشيعة في السعودية – وأمام السعوديين جميعا – فرصة المشاركة الحقيقية في بناء “السعودية الجديدة”، وأن يكونوا مساهمين فاعلين إلى جانب القيادة السياسية في صياغة مستقبلهم، دون الخوف من فتاوى “التكفير” أو ممارسات “التمييز الطائفي” التي ولى زمنها إلى غير رجعة، وهذا ما تؤكد عليه الإرادة الملكية.